بلا زينة ولا أجراس.. جراح الحرب تطغى على عيد الميلاد في كنائس غزة
بلا زينة ولا أجراس.. جراح الحرب تطغى على عيد الميلاد في كنائس غزة
للعام الثالث على التوالي يحل عيد الميلاد في قطاع غزة بلا أضواء ولا زينة ولا أصوات تراتيل تعلو في الساحات، وتستقبل المدينة -التي اعتادت في مثل هذه الأيام على مزيج من الفرح الروحي والتقاليد الدينية- العيد وهي مثقلة بآثار حرب طويلة تركت خلفها قتلاً ودماراً ونزوحاً وذاكرة جماعية مثقلة بالحزن.
ورغم انتهاء حرب الإبادة الإسرائيلية رسمياً باتفاق وقف إطلاق النار في 10 أكتوبر الماضي، فإن آثارها ما زالت حاضرة في تفاصيل الحياة اليومية، وتحديداً داخل الكنائس التي تحولت من أماكن احتفال إلى ملاذات للنازحين وفضاءات للصلاة الصامتة.
وفي شرقي مدينة غزة تقف كنيسة العائلة المقدسة داخل مجمع دير اللاتين شاهدة على سنوات من الألم، وتحمل واجهتها المتضررة بفعل القصف الإسرائيلي آثار الشظايا والجدران المتصدعة، في حين يعلو الصليب بوصفه رمزاً للصمود وسط الدمار، هذه الكنيسة التي كانت تستعد في كل ديسمبر لاستقبال العيد بالأغاني والزينة، فقدت هذا المشهد تماماً.
وخلال عامي الحرب تعرضت الكنيسة لاستهدافات عدة، كان آخرها في يوليو 2025 حين قتل 3 نازحين وأصيب 9 آخرون، بينهم كاهن الرعية الأب جبرائيل رومانيللي، ولم تكن هذه الكنيسة وحدها المستهدفة، إذ تعرضت 3 كنائس رئيسية في غزة للقصف أكثر من مرة، في حين قتل 20 مسيحياً في مناطق متفرقة من القطاع خلال الحرب وفق وكالة أنباء الأناضول.
صلوات بلا احتفالات
يؤكد جورج أنطون مدير عمليات البطريركية اللاتينية في غزة ورئيس لجنة الطوارئ التابعة للكنيسة الكاثوليكية أن احتفالات عيد الميلاد هذا العام تقتصر فقط على الصلوات والقداس داخل مباني الكنائس، لا ساحات مفتوحة ولا أشجار عملاقة ولا برامج للأطفال أو كبار السن، كل ما تبقى هو الصلاة الجماعية في فضاء مغلق، في محاولة للحفاظ على جوهر العيد الروحي بعيداً عن أي مظاهر احتفالية.
ويشير أنطون إلى أن هذا المشهد لا يختلف عن العامين الماضيين، فالحرب وإن توقفت رسمياً، فإن الفلسطينيين لم يغادروا أجواءها النفسية بعد.
بحسب أنطون فإن المجتمع الفلسطيني بمكوناته كافة، ومنه المسيحيون، يعيش حالة من الحزن والإحباط العميق، فالجراح لم تلتئم بعد، وذكريات الشهداء لا تزال حاضرة في كل بيت، ويؤكد أن المسيحيين كانوا جزءاً من الاستهداف، فقد قُتل أبناؤهم ودُمرت منازلهم ومحالهم ومدارسهم، تماماً كما حدث مع باقي أبناء غزة، ويضيف أن الاحتفال في مثل هذه الظروف يبدو كأنه تجاهل للألم الجمعي، مؤكداً أن الكنيسة لا تستطيع أن تحتفل وكأن شيئاً لم يكن.
تراجع في أعداد المسيحيين
أدت الحرب أيضاً إلى نزوح أعداد من المسيحيين من شمال غزة إلى جنوبها، في حين اضطر بعضهم إلى مغادرة القطاع نهائياً بحثاً عن الأمان، وقبل اندلاع الحرب في 8 أكتوبر 2023، كان عدد المسيحيين في غزة يقدر بنحو 1000 شخص من أصل 2.4 مليون نسمة. هذا الوجود الصغير تاريخياً أصبح اليوم أكثر هشاشة، في ظل فقدان المساكن وغياب الاستقرار الاقتصادي والخدمات الأساسية.
وسط هذه الأجواء يوجه جورج أنطون رسالة إلى العالم مع حلول أعياد الميلاد، داعياً إلى دق جرس السلام بعد عامين من حرب أثبتت عدم جدواها، يرى أن ما جرى كشف حجم الخسارة الإنسانية لكلا الطرفين، وإن كانت المعاناة الفلسطينية هي الأعمق، ويشدد على ضرورة النظر إلى حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة، مؤكداً أن أي عملية سلام قادمة يجب أن تكون مختلفة، عادلة، وقائمة على الاعتراف بحقوق الشعوب في الحرية والسيادة.
داخل مبنى الكنيسة تحاول مجموعة من الفتيات المسيحيات كسر الصمت بتعليق زينة بسيطة على شجرة ميلاد صغيرة وضعت في إحدى الزوايا، لا موسيقى ولا ضحكات عالية، فقط حركات هادئة ووجوه يطغى عليها التعب، الملابس القاتمة التي يرتدينها تعكس حجم الفقد والخوف الذي رافق طفولتهن خلال الحرب، هذه المحاولة البسيطة ليست احتفالاً بقدر ما هي مقاومة رمزية لليأس.
إلى جانب الشجرة، تجلس فاتن السلفيتي تؤدي صلاتها وتمسح دموعاً لم تجف منذ فقدت نجلها وزوجها خلال الحرب، بصوت مثقل بالحزن، تقول إن هذا العيد هو الأول بعد توقف القتال، لكنه بلا أي شعور بالفرح، نجلها قتل وهو في طريقه لجلب الطعام، تاركاً خلفه 4 أطفال، وبعد 40 يوماً فقط توفي زوجها المريض حزناً على ابنه، تضيف أن الفقد لا يترك مساحة للفرح، وأن غزة بأكملها تعيش حالة دمار نفسي ومادي لا توصف بالكلمات.
أزمة صحية وإنسانية
تشير السلفيتي إلى أن معاناة الأسر لم تتوقف بانتهاء الحرب، فإسرائيل ما زالت تفرض قيوداً مشددة على إدخال الأدوية والمستلزمات الطبية منذ 2023، ما تسبب في تدهور صحة الجرحى وأصحاب الأمراض المزمنة، وحتى بعد اتفاق وقف إطلاق النار، لم تلتزم إسرائيل بتعهداتها الإنسانية، واستمرت القيود، الأمر الذي جعل الحياة اليومية أكثر قسوة. وتعيش السلفيتي داخل الكنيسة منذ نزوحها بعد تضرر منزلها، مع عدد من العائلات المسيحية التي وجدت في الكنيسة مأوى أخيراً.
في ظل الانهيار الاقتصادي الواسع، تؤكد السلفيتي أن الكنيسة توفر للنازحين احتياجاتهم الأساسية من طعام وشراب وملابس وإيواء، هذا الدور الإنساني أصبح امتداداً لرسالتها الروحية، في وقت لم تعد فيه الأعياد مرتبطة بالهدايا والزينة، بل بالقدرة على البقاء. وتستحضر السلفيتي بحسرة أجواء الأعياد السابقة، حين كانت تجهز العيد مع زوجها ونجلها وسط فرحة الأطفال، فرحة تحولت اليوم إلى خوف دائم من أصوات القصف والرصاص.
الطفلة مريم أنطون (12 عاماً) تقول إن تعليق الزينة أعاد للأطفال جزءاً بسيطاً من الإحساس بالعيد، لكنه لم يعوض الفقد، إنها تفتقد جدتها وعمتها اللتين فقدتهما خلال الحرب، وتؤكد أن الكنائس لم تسلم من الاستهداف، إذ تعرضت كنيسة العائلة المقدسة لهجوم جديد بقنبلة صوت حتى بعد انتهاء الحرب، وتشير إلى أن أصوات الرصاص والانفجارات ما زالت تُسمع، نتيجة الخروقات الإسرائيلية المتكررة لاتفاق وقف إطلاق النار.
أمنيات بسيطة لعام جديد
تعبر مريم عن أمنية بسيطة بأن يأتي العيد القادم بلا حرب ولا فقد، وأن يعيش الناس في أمان وسلام، هذه الأمنية التي يرددها الكبار والصغار في غزة تلخص جوهر الأزمة الإنسانية المستمرة، حيث لم يعد المطلوب مظاهر احتفال بقدر ما هو حق أساسي في الحياة الآمنة.
يضم قطاع غزة واحدة من أقدم التجمعات المسيحية في المنطقة، حيث عاش المسيحيون والمسلمون تاريخياً في نسيج اجتماعي واحد، ومع اندلاع الحرب في أكتوبر 2023، تعرض القطاع لدمار واسع شمل البنية التحتية والمنازل ودور العبادة، وأدى إلى مقتل عشرات الآلاف ونزوح مئات الآلاف، والكنائس في غزة لم تكن بمنأى عن الاستهداف، وتحولت إلى مراكز إيواء في ظل انهيار الخدمات.
ورغم وقف إطلاق النار في أكتوبر، ما زالت آثار الحرب الإنسانية والنفسية حاضرة بقوة، مع استمرار القيود على المساعدات والدواء، ويعكس عيد الميلاد في غزة اليوم مأساة شعب بأكمله، حيث تحولت الأعياد إلى لحظات تأمل وصلاة في مواجهة فقد لم ينتهِ بعد، وانتظار طويل لسلام حقيقي يعيد للمدينة نورها الغائب.











